اذا كان زمن استخدام الحمير وتربيتها، من غير المهرّبين، قد ولّى الى غير رجعة، فانه في بلدة العديسة - قضاء مرجعيون من بقي يمتهن صناعة "بردعة" الحمير أو "الجلال".

في غرفته الحجرية الكبيرة القديمة، يمضي "الجليلاتي" حسين أشمر (65 سنة)، الذي أصبح مع شقيقه نجيب المقيم في بلدة مشغرة آخر جيل صناعة "الجلالي"، معظم أوقاته في العمل الذي يعشقه أكثر من مهنة التعليم التي عمل فيها سنوات طويلة، قبل أن يستقيل منها في العام 1993، بعدما أصبحت صناعته تدرّ عليه أضعاف ما يجنيه من راتبه كموظّف في ملاك التعليم الأساسي.

يومها "كان راتبي لا يتجاوز 440 ألف ليرة لبنانية، بينما كان ثمن جلال الحمير الواحد الذي أصنعه خلال ثلاثة أيام يعادل 250 ألف ليرة" يقول أشمر، ويوضح: "ورثت هذه المهنة عن أبي وأعمامي الذين تعلموها أيضاً من جدي يوسف أشمر، فقد كنت أساعد والدي وأنا في سنيّ الدراسة الى أن أصبحت موظفاً في ملاك التعليم الأساسي في العام 1965، حيث انقطعت نهائياً عن هذه المهنة حتى بداية الحرب الأهلية في العام 1975، عندها قرّرت العودة اليها هرباً من أجواء الحرب وباباً لكسب الرزق، بعد أن أصبح الراتب لا يكفي لاعالة أسرتي".

في هذه الأوقات أصبح أشمر محترفاً في صناعة الجلالي، ويذكر أنه في العام 1977، عندما احتلّ العدوّ الأسرائيلي بلدته العديسة، ازداد الطلب بكثرة على انتاجه، سيما من منطقة شبعا القريبة من الحدود مع فلسطين المحتلّة وسوريا: "كان راتبي وقتها 300 ليرة، وهو كان يعادل ثمن جلالين أصنعهما خلال أسبوع واحد".

في العام 1993 قدّم أشمر استقالته من ملاك التعليم الأساسي، بعد 28 عاماً من الخدمة: "وزير التربية حينها قدّم اغراءات مالية للذين يرغبون في الاستقالة من ملاك التعليم، وكانت صنعتي تدرّ عليّ أموالاً كثيرة نسبة الى راتبي، أي ما يعادل مليوني ليرة لبنانية في الشهر الواحد على الأقلّ، بينما كان راتبي 450 ألفاً فقط". وقتها انتشرت شهرة أشمر في صناعة "جلالي" الحمير في كلّ المناطق اللبنانية، نظراً لجودة انتاجه، كما يقول: "أصبحت أضع على ما أصنعه من الجلالي رمزاً يمثّل شجرة الأرز الوطنية، عندها لقبّني أبناء شبعا بأبي أرزة، وكان الزبائن يأتون إليّ من الشمال والبقاع ومعظم المناطق اللبنانية الأخرى".

يفتخر "أبو أرزة" بعمله هذا: "رغم أن الجيل الجديد يستهزء بها"، لكنه يعترف بأن كسبه منها "تضاءل الى أدنى حدوده، بعد أن بلغ ذروته في السبعينيات حتى العام 2000، عندما تحرّرت المنطقة من غطرسة الاحتلال الاسرائيلي، وتوقفت أعمال التهريب عبر الحدود، حتى أن ثمن البغل تضاءل من 3 ملايين ليرة الى 250 ألف ليرة، اضافة الى منع قطع الأشجار من الأحراج ما أوقف نقل الحطب عبر البغال، وفتحت الطرق الزراعية، حتى أن تمدّن الأهالي لا يسمح لهم بتربية الحمير وتخصيص غرفة لايوائها واطعامها، فهذا بات عيباً ومن شأنه افتعال المشاكل مع الجيران".


حرب 2006 كانت "القشّة التي قصمت ظهر البعير" بالنسبة لانتاج حسين أشمر، "فماتت معظم البغال بسبب القصف أو الجوع". عشق أشمر لصنعته الأولى لا يعني أنه كان لا يحب التدريس: "فأنا خرّجت عدداً كبيراً من وجهاء المنطقة، وكنت محبوباً من أبناء بلدتي الذين انتخبوني فأصبحت عضواً بلدياً من العام 2001 حتى العام 2010، لكن المدرّس لا يكفيه راتبه لتأمين معيشة أسرته".

رغم أن مهنة صناعة "الجلالي" ما عادت تؤمّن قوت أشمر الاّ أنه لا يزال يواضب عليها بشكل يومي "لأمارس هوايتي التي أحببتها، وللحفاظ على صحتي، فجسمي تعوّد على العمل، وأنا مصاب بعدة أمراض بسبب قهر الاحتلال وظلمه، فيساهم عملي في التخفيف منها، لكنني أصبحت أعمل ببطء فأصنع ما تيسّر، وأبيع لتاجر جملة من بلدة حولا، وتاجرين آخرين من مدينة جبيل وبلدة جبّ جنّين".

لكن الهواة الجدد، من الذين يحبون اقتناء الأدوات القديمة، لتزيين منازلهم الجديدة، باتوا يطلبون من أشمر وشقيقه، صناعة "الجلالي" الصغيرة الحجم، التي لا تصلح الاّ للزينة. يعرض أشمر العديد من ما أنتجه، في غرفة عمله التي يعشقها، ويوضح أن "ثمن جلال البغل من الباب الأول أصبح 300 ألف ليرة وكلفته 150 ألفاً، أما ثمن جلال الحمار 75000 ليرة، وجلال الزينة 40 ألفاً".

لم يبق أحد في لبنان غير أشمر وشقيقه يعمل في هذه المهنة: "فجميعهم وافتهم المنيّة في السنوات الخمس الأخيرة، أو تركوا المهنة الى غير رجعة بعد أن طعنوا في السنّ، حتى بات شقيقي يقول مازحاً لأبناء مشغرة: ماذا ستفعلون من بعدي اذا عدتم الى زمن البغال". ويبيّن أن "هذه المهنة لا تزال رائجة في سوريا، سيما في المناطق النائية، حتى أن اليد العاملة السورية ساهمت في تراجع انتاجنا في لبنان بسبب رخص المواد الأولية".

تحتاج صناعة "الجلال" الى أكياس من الخيش، وحرامات مستعملة، أو"بطانيات"، وجلد بقر مصنّع، وسجّاد مستعمل أو قماش الخيم البدوية ولبّادات من صوف الجمال وكبسون وقشّ، سيما قشّ "البوط" الموجود في البقاع، وخيطان من النايلون. العمل بحسب أشمر، يدوي بالكامل: "تصبح البطانية بظاهر الجلال، والبطانية بباطنه، وبداخلها نحشو القشّ، والكبسون الملوّن للزينة من الخارج، اما العدّة المستخدمة، مقصّ خاص للخيش وآخر للقشّ وكفّ حديدي من النحاس يستخدم للقبض على المسلّة، التي تستخدم لتقطيب القماش وشدّ الجلال، أمّا قرن الغزال فهو أساسيّ لشدّ الخيطان، كما نستخدم قضيباً حديدياً للقبض على القشّ وضغطه الى الداخل القماش المقطّب".