السبت، 2 يوليو 2011

جبل عامل


جبل عامل
هو ذا الجبل الأشم يرتفع بقامته حرّاً أبيّاً..
فعلى مرّ الدهور، وجبل عامل عَصِيّ على الخضوع والاستسلام، فقد قاوم أهلُه طوال تاريخهم كل أنواع الهيمنة والقمع والاحتلال، وتحمّلوا صنوف المعاناة والتهجير والقتل، لكنهم أبَوا الانحناء للعواصف التي حاولت أكثر من مرّة طمس هُوّيتهم ومحو تاريخ علمائهم ومجاهديهم، فصمدوا أمام محاولات الإلحاق والتهميش والتغريب، وأمام الظالمين والمحتلين، فامتزج الإيمان بالصبر، والتضحية بالصمود والدم، فكانت بفعل الثقة بالله والتوكل عليه، والتمسّك بحبل أهل البيت الطاهرين عليهم السّلام، والإرادة الصلبة والتصميم على الجهاد، أن تحطمت أسطورة الجيش الذي لا يُقهَر، واضطر العدو الصهيوني الغادر إلى الإنسحاب من جبل عامل والبقاع الغربي منهزماً ذليلاً في الرابع والعشرين من أيار عام 2000م، وبذلك سجّلت صفحة مجيدة من تاريخ لبنان والعرب والمسلمين. ولأهمية هذا الحدث الكبير ومواكبة له، ولأهمية جبل عامل تاريخاً وحاضراً، والتي يجهلها الكثير من المسلمين، كان هذا الاستطلاع للكشف ما أمكن عن تاريخه الناصع وحاضره المشرق.
الاسم والحدود
يطلق اسم جبل عامل على معظم الأراضي الواقعة في جنوبي لبنان وعلى قسم قليل من الأراضي الواقعة على الحدود في شمالي فلسطين المحتلة. وتُرجع معظم المصادر تلك التسمية إلى قبيلة عاملة بن سبأ التي هاجرت من اليمن بعد انهيار سد مأرب، ونزلت هذه الجبال. يذكر السيّد محسن الأمين قدس سره في موسوعته « أعيان الشيعة » ( الجزء الأول ) أن جبل عامل يحدّه غرباً البحر المتوسط وشرقاً الحولة ووادي التيم والبقاع وبعض جبل لبنان، وجنوباً فلسطين... وهو مشتمل على قرى وبلدان كثيرة تنبو عن الحصر. ويرى بعض العلماء أن قرى مَشغَرَة وعين التينة وميدون وسَحْمَر ويَحمر وقلية وزلاية ولوسة في البقاع الغربي تدخل في نطاق جبل عامل، بالإضافة إلى قرى كوكبا وبرغز وسوق الخان من ناحية حاصبَيّا.
ولكن بعضاً آخر من العامليين لا يرون التوسع في حدود جبل عامل على هذه الصورة.
واليوم يقع جبل عامل في جنوبي الجمهورية اللبنانية، على شاطئ البحر المتوسط، ممتداً قليلاً داخل حدود فلسطين الشمالية المعروفة اليوم.
الوجود العربي والإسلامي في جبل عامل
كانت القبائل العربية قد نزحت من الجزيرة العربية منذ القرن الخامس قبل الميلاد، واستقرت في بلاد الشام في المناطق الجبلية والساحلية. نذكر من تلك القبائل على سبيل المثال: قبيلة عاملة، وإليها يُنسب جبل عامل، وقبيلة تيم الله بن ثعلبة التي ينسب إليها وادي التيم عند أسفل جبل حرمون، وقبيلة بهراء ويُنسب إليها جبل بهراء.
إلى جانب العرب، كانت بلاد الشام مأهولة بالمسيحيين الآراميّي الأصل، كما أن جبل عامل كان مأهولاً بالعرب والروم.
وفي عهد الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله أخذت الطلائع تخرج من الحجاز إلى الشام مبشّرة بالرسالة الإسلامية، وبعد وفاته صلّى الله عليه وآله أكمل المسلمون فتح بلاد الشام حتّى فُتحت المنطقة بمجملها في حدود عام 637م.
دخول التشيّع إلى جبل عامل
يُرجع العامليون بدء انتشار المذهب الإسلامي الجعفري أو التشيع لأهل البيت عليهم السّلام في جبل عامل إلى الصحابي الجليل أبي ذر الغِفاري الذي نفاه معاوية في الصدر الأول للإسلام، فاستقر في بلاد عاملة ردحاً من الزمن، داعياً الناس إلى التشيّع لعليّ عليه السّلام. ويستدلون على ذلك بوجود مسجدين يُنسَبان إلى أبي ذر في قريتَي مَيْس والصَّرْفَند العامليتين، إلاّ أن بعض المؤرخين يشكّكون بذلك لقلة المصادر.
ومما لا ريب فيه أن التشيّع انتشر بشكل واسع في القرن الرابع الهجري، حيث شهد العراق وإيران والشام وشمال أفريقيا ومصر مداً شيعياً، وذلك في عهد البويهيين والحمدانيين والأدارسة والفاطميين.
وكان جبل عامل واقعاً في حكم الفاطميين، وظل تابعاً لهم حتّى سقط كغيره من البلاد الإسلاميّة في المنطقة تحت سيطرة الصليبيين مدة من الزمن وخضع لهم.
جبل عامل على لسان الأئمّة عليهم السّلام وفي أقوال المفسرين
يرى بعض المفسّرين أن جبل عامل يقع ضمن نطاق الأرض المقدّسة التي جاء ذكرها في القرآن الكريم، فقد روى العيّاشي في تفسيره الآية ادخُلوا الأرضَ المُقَدَّسةَ التي كَتَبَ اللهُ لكم ( المائدة:21 )، أنها بلاد الشام.
ويرى الحر العاملي أن جبل عامل متصل ببلاد المَقْدس، استناداً إلى قوله تعالى: سُبحانَ الذي أسرى بعبدهِ ليلاً من المسجدِ الحرامِ إلى المسجدِ الأقصى الذي بارَكْنا حولَه ( الإسراء:1 ).
وقد ورد عدد من الأحاديث حول جبل عامل على لسان الأئمّة الأطهار عليهم السّلام، نذكر منها رواية عن الإمام جعفر الصادق عليه السّلام أنّه سُئل: كيف يكون الناس في حال قيام القائم ـ أي الإمام المهدي عليه السّلام ـ وفي حال غيبته ؟ ومن أولياؤه وشيعته ؟ ومن المتمثلون أمر أئمتهم والمقتفون لآثارهم والآخذون بأقوالهم ؟ قال عليه السّلام: بلدة بالشام. قيل: يا بن رسول الله، إن أعمال الشام متسعة. قال: بلدة بأعمال الشقيف أتون ( لعلها أرنون وقد حُرّفت بالنسخ )، وبيوت وربوع تُعرف بسواحل البحار وأوطئة الجبال.
قيل: يا بن رسول الله، هؤلاء شيعتكم ؟ قال عليه السّلام: هؤلاء شيعتنا، وهم أنصارنا والمواسُون لغريبنا، والحافظون سرّنا، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر، ويعرفون حقوق الله ويساوون بين إخوانهم، أولئك المرحومون المغفور لحيّهم وميّتهم، وذَكَرِهم وأُنثاهم، ولأسودهم وأبيضهم، وحرّهم وعبدهم، وإن فيهم رجالاً ينتظرون، والله يحبّ المنتظرين.
المزارات في جبل عامل
عُرف جبل عامل وما زال بكثرة المزارات والمشاهد، إذ مرّ على هذه البقعة مئات من الأنبياء والأولياء والصالحين. بعض تلك المزارات التي نُسبت إليهم أو تَعَنونَت بأسمائهم لا يزال قائماً، وبعضها دُرس، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ مشهد ( إدريس ) في الغازية.
ـ مشهد ( الخضر ) في ساحل صيدا مقابل الصَّرْفَند.
ـ مشهد ( النبيّ رُوبين ) قرب قرية طيربيخا.
ـ مشهد ( سُجَّد ) على جبل عالٍ من قمم جبل الريحان.
ـ مشهد ( شمع ) في شمع.
ـ مشهد ( شِيت ) في بَرَعْشِيت، وهو خراب لا يُعلم ما هو.
ـ مشهد ( صاليم ) في عربصاليم.
ـ مشهد ( صافي ) على جبل عالٍ قرب جباع.
ـ مشهد ( علي الطاهر ) في بلاد الشَّقيف.
ـ مشهد ( النبيّ منذر ) في ميس.
ـ مشهد ( يحيى ) في حنويه.
المدارس الدينية في جبل عامل
لم يخلُ جبل عامل منذ القرن السابع الهجري حتى أيامنا من المدارس والحوزات الدينية، وأهم تلك المدارس آنذاك: مدرسة جِزِّين، مدرسة ميس الجبل، مدرسة شقراء، المدرسة الكوثرية، مدرس جُبَع، مدرسة حنويه، مدرسة بنت جبيل، المدرسة النورية والمدرسة الحميدية في النبطية، مدرسة جويّا، مدرسة كَفْرا، مدرسة النميرية، مدرسة أنصار، مدرسة عيتا الزط، مدرسة مجدل سَلم، مدرسة عِيناتا، مدرسة شحور، مدرسة طير دبا.
أسماء أضاءت سماء جبل عامل
منذ العهود الإسلاميّة الأولى ما زال جبل عامل يُنبت العلماء والمراجع والشعراء والأدباء والمفكرين.
فتاريخ جبل عامل بعد الفتح العربي الإسلامي هو قبل كل شيء تاريخ الفكر والأدب والقلم، فعلى سبيل المثال، برز في العهد الأموي في جبل عامل شاعر موهوب رفيع الصوت، يزاحم جريراً والفرزدق، ذلك هو عَدِيّ بن الرِّقاع العاملي، الذي كان في طليعة شعراء ذلك العهد.
وقد برزت أسماء عاملية تفوّقت في شتى ميادين الفقه والحديث واللغة والتفسير والتاريخ، منهم: بلال العاملي، وشهاب بن إبراهيم العاملي، وهمام بن مَعقِل العاملي، وثعلبة بن سلامة العاملي، وسُحيم بن وثيل العاملي، ومحمد بن محمد بن سِماك العاملي، وعبدالمحسن الصُّوري، وغيث بن علي الصُّوري، وأحمد بن شَبيب أبو زَرعة الصُّوري، والحسين بن أحمد بن عبدالأحد الصُّوري، وأبو عبدالله محمد بن علي الصُّوري، وسليمان بن محمد الصَّيداوي، وصالح الصَّيداوي، ومحمد بن مكي الجِزِيني ( الشهيد الأول )، وأحمد بن الحسين العودي الجِزيني، وعلي الصائغ الجِزيني، وأبو معن الصَّرفَندي، وإبراهيم الصرفندي، وأبو عبدالله الصرفندي، وغير هؤلاء ممن يعيا عنهم التعداد والإحصاء. وفي كتاب « أمل الآمل » لمحمد بن الحسن الحر العاملي أسماء رجال الفكر والأدب والعلم الذين نبغوا بعد القرن السادس الهجري.
وكانت جِزّين ومَشغَرة وجِباع مجمع علماء جبل عامل وطلابه؛ فقد سكن جباعَ العالِمُ الكبير الشيخ عبدالله نعمة الذي انتهت إليه المرجعية الدينية في عصره، وفيها دفن. وفيها قبرا العالمين الجليلين الشيخ حسن صاحب كتاب « المعالم »، والسيّد محمد صاحب كتاب « المدارك »، وفيها قبر الشيخ الظهيري وغيرهم.
ولقد أُحصي من العلماء الذين انجبتهم جباع ما يزيد على واحد وثلاثين عالماً، نكتفي بذكر بعضهم: الشيخ زين الدين المعروف بالشهيد الثاني، ووالده الشيخ علي، وولده الشيخ حسن صاحب « المعالم »، والسيّد محمد صاحب « المدارك »، وبعد هؤلاء تأتي ذرية الشهيد الثاني المعروفة بسلسلة البهائي الذي توفي في أصفهان ودفن في مشهد، ووالده الشيخ حسين عبدالصمد شيخ الإسلام في هرات، والسيّد حسين ابن السيّد محمد صاحب « المدارك »، والسيّد حيدر ابن نور الدين الموسوي، كذلك أسرة آل الحر العاملية التي خرج منها عدد من العلماء والأدباء منهم الشيخ محمد بن الحسن الحرّ العاملي صاحب كتابي « وسائل الشيعة » و « أمل الآمل ».
بعض المحطات التاريخية الأساسية في جبل عامل
جغرافيّاً وتاريخيّاً كان لبنان جزءاً من البلاد المعروفة ببلاد الشام، وقد أصبح جزءاً من الدولة الإسلاميّة منذ القرن السابع للميلاد إلى سقوط الدولة العثمانية. ولا يتسع المقام للحديث عن التطورات السياسية أو التقسيمات الإدارية التي مرّ بها لبنان، وبالتالي جبل عامل عبر العهود المتعددة التي حكمت بلاد الشام، من صدر الإسلام إلى فترة الانتداب الفرنسي ثم الاستقلال إلى مراحل الاجتياح الإسرائيلي، لذا سنتوقف عند أحداث مهمة عصفت بجبل عامل.
الغزو الصليبي
بدأت الحملات الصليبية على بلاد المشرق الإسلامي عام 1095م، وقد مرّت بالساحل اللبناني حيث تساقطت مدنه تباعاً حتّى سقطت صيدا في 4 / 12 / 1110م. أمّا صُور فصمدت عشرين عاماً قبل سقوطها عام 1124م، وذلك بفضل ثباتها ونجدة السلاجقة من دمشق ونجدة أهالي جبل عامل لها بالرغم من وجودهم تحت سيطرة الصليبيين الذين بَنَوا قلعة كبيرة في تِبْنين لمراقبة حصار صُور، وإذا كانت القرى والأرياف ظلت عامرة بسكانها نظراً لحاجة الصليبيين إلى الأهالي لحراثة الأرض وزراعتها لتؤمّن حاجتهم من القوت، فإن المدن اللبنانية الساحلية شهدت القتل والدمار والتهجير، وشهد أهاليها أبشع المجازر وصور التعذيب. والأمر نفسه عرفته بقية المدن في المشرق الإسلامي، الأمر الذي أثار استياء الرأي العام، فأخذ الفقهاء والعلماء يخطبون من فوق المنابر مُنوِّهين بفضل الجهاد والمجاهدين وبفضل القدس التي استهدفتها الحملات الصليبية.
وقد تصدى المسلمون في ظل الحكم العباسي والحكم الفاطمي للصليبيين، تصدّى لهم عماد الدين زنكي بن اقسنقر فاستعاد بعض المناطق الإسلامية المهمة.
وبعد ذلك، بدأت المماليك بقيادة الظاهر بيبرس بمهاجمة المراكز الصليبية المتبقية، فاستعاد يافا وقلعة الشقيف وصَفَد وهونين وتِبنِين والرملة وأنطاكية، ولم يَبقَ في أيدي الصليبيين سوى الساحل من طرابلس إلى عكّا. ثم استطاع ابنه قلاوون ومن بعده ابنه الأشرف خليل تحرير المدن الساحلية، فتحررّت آخر مدينة (صور) في 19 أيار من العام 1291م.
المماليك وتثبيت دعائم حكمهم
بدأ المماليك بتصفية كل معارض لدولتهم أو لمذهبها، لذلك شهدت مناطق عديدة دوّامة من العنف والتنكيل، كالمناطق المحيطة بطرابلس، وكذلك مناطق كسروان الشيعية التي تهجّر أهلها إلى مناطق جِزّين والبقاع. وطال الظلم المملوكي العالمَ الجليل شمس الدين محمد بن مكي الجزيني، فقضى شهيداً عام 1384، ولُقّب بالشهيد الأول.
ظهور الإقطاعيين في جبل عامل
في تلك المرحلة بدأ ظهور الإقطاعيين في جبل عامل، وعلى رأسهم ابن بشارة، وقد تولى آل بشارة القسم الجنوبي من جبل عامل حتى مطلع القرن السادس عشر، فعرفت ببلاد بشارة نسبة إلى تلك العائلة. وقد تأسست هذه الإمارة على يد الأمير حسام الدين بشارة بن أسد الدين العاملي، وكانت قرية زبقين مركز إمارته، وظلت هذه العائلة مسيطرة حتى عام 1501م، إلى أن تسلل المعنيون إلى جبل عامل.
جبل عامل والحكم العثماني
بعد أن دانت بلاد الشام بأكملها للحكم العثماني عام 1516م، كان نصيب المسلمين الشيعة من التنكيل والقهر كبيراً، فقد نكّل الأتراك بعلماء الدين الشيعة، واستحلّوا دماءهم وشتتوا شملهم، وصادروا مكتباتهم، وجعلوا مؤلفاتهم طعاماً للنار، فكان جبل عامل عرضة للغارات من كل حدب وصوب. واستعان الأتراك لمحاربة العامليين، بأهل المقاطعات المجاورة من أنصارهم، فأصيب بالبلاء والمحن، إلاّ أن العامليين صمدوا في وجه كل القوى التي حاولت إلغاءهم وتهميشهم ( لا يتسع المقام لسرد كل الوقائع والأحداث التاريخية التي عصفت بجبل عامل آنذاك ).
جبل عامل في الانتداب الفرنسي
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى وتفتيت الدولة العثمانية وتقسيمها، أصبح لبنان الكبير تحت الانتداب الفرنسي. قاوم الوطنيون اللبنانيون هذا الانتداب، وحاولوا جاهدين عدم تقسيم سوريا ونادوا بوحدة لبنان وسوريا، وكان جبل عامل بقيادة علماء الدين أول المعارضين للتقسيم، فقد أفتى السيّد عبدالحسين شرف الدين بالجهاد ضد الفرنسيين، وتنادى علماء جبل عامل وزعماؤه لعقد مؤتمرهم الشهير في وادي الحجير، وذلك نهار السبت في 24 نيسان 1920م، وتمّ تفويض السيّد عبدالحسين شرف الدين والسيّد محسن الأمين والسيّد عبدالحسين نور الدين بالبحث في مصير جبل عامل مع الملك فيصل في الشام. وقد انفجرت الثورات ضد الفرنسيين في جبل عام منذ عام 1920م، وتشكلت الفرق لمحاربتهم كفرقة أدهم خنجر وفرقة صادق حمزة وفرقة محمود أحمد بِزّي.
وعرفت البلدات والقرى الانتفاضات والاعتصامات ضد الاستعمار الفرنسي، ومن أبرزها انتفاضة بلدة بنت جبيل عام 1936م، حتى اعتبرت الصحف اللبنانية آنذاك ـ ومنها جريدة النهار ـ أن انتفاضة بنت جبيل هي انتفاضة وحدوية مع سوريا، وأن الشهداء الذين سقطوا في بنت جبيل هم شهداء الوحدة السورية.
الجنوب وأطماع الصهاينة واعتداءاتهم
على أثر نكبة فلسطين عام 1948، أضحى الجنوب عرضة للأطماع الإسرائيلية ولاعتداءاتهم المتكررة على القرى الآمنة. فقد دخلت العصابات الصهيونية قرية صلحة ( وهي إحدى القرى السبع بحسب التعداد الرسمي للقرى اللبنانية المحتلة، الواقعة على السفح الجنوبي لمرتفع مارون الراس )، وكان فيها 120 نفراً صمدوا فيها، أوقفتهم قوات الاحتلال مساء 21 / 10 / 1948 في ساحة المسجد صفا عند جداره الغربي وأردتهم قتلى، وسُمّيت تلك المجزرة بمجزرة « الصف ». ثم دخل الصهاينة في 31 / 10 / 1948 قرية « حُولا » وقتلوا أيضاً سبعين فرداً من أهالي القرية.
وفي العام نفسه اقتطع الصهاينة 125 ألف دونم من أرض ميس الجبل وحوالي 2300 دونم من أرض يارين.
وكانت بريطانيا أثناء ترسيم الحدود عام 1920 قد اقتطعت عدداً من القرى والمزارع لصالح الكيان الصهيوني؛ من تلك القرى: طربيخا، وصلحة، وقدس، والنبي يوشع، وهونين، والمالكية والمنصورة وغيرها.
وقد توالى شريط الاعتداءات الإسرائيلية على القرى الآمنة منذ 1948. وتلك الاعتداءات لا تحصى لكثرتها، نذكر منها إضافة إلى ما تقدم: دخول الإسرائيليين إلى قرية الظهيرة عام 1956، وإبادة عائلة بكاملها بعد نسف منزلها. وفي عام 1969 تعرضت قرية رامية لقصف مدفعي ثم دخلها الكوماندوس الإسرائيلي عام 1971 ونسف عدة بيوت. وقد زاد حقد الإسرائيليين على الجنوبيين لاحتضانهم المقاومة الفلسطينية، فكانت القرى المتاخمة للحدود الفلسطينية والقريبة منها تتعرض للقصف المستمر.
وفي عام 1976 أوعزت « إسرائيل » لعملائها في المنطقة الجنوبية بقيادة سعد حداد بالسيطرة على منطقة الشريط الحدودي، فاستبيحت القرى، وأعمل العملاء فيها القتل والنهب والتهجير وفق خطة إسرائيلية لإفراغ الجنوب من سكانه تمهيداً لاحتلاله واستغلال مقدراته، لا سيما وأن للكيان الصهيوني أطماعاً في المياه اللبنانية كمياه الليطاني والوزاني والحاصباني، كما له أطماع تاريخية بهذه الأرض الخصبة.
كانت الخطة العسكرية الإسرائيلية جاهزة لاحتلال الجنوب، وكانت شرارة ذلك الاجتياح عملية « كمال عدوان » نهار السبت 11 / 3 / 1978 على الطريق الساحلي شمالي تل أبيب، وأدّت إلى مقتل 32 إسرائيلياً وجرح 82 آخرين.
بدأت عملية الليطاني بُعيد منتصف ليل 14 ـ 15 آذار 1978، واستمرت حتى 21 من الشهر نفسه، حيث تمكنت القوات الإسرائيلية في خلال هذه المدة من السيطرة على مناطق تشرف على مجرى الليطاني شمالاً، ما عدا جيب صغير يمتد على المرتفعات المشرفة على مدينة صور، وما بينها وبين مصب القاسمية، وحتى بلدات كوكبا وراشَيّا الفخار وكفرشوبا في الشمال الشرقي. وقد رافق ذلك الاجتياح المجازر الجماعية التي أقدمت عليها قوات الاحتلال، فعانى الجنوبيون القتل والتهجير والتشريد واحتلال أرضهم وممتلكاتهم. حينذاك، دعا مجلس الأمن « إسرائيلَ » إلى أن توقف فوراً عملها العسكري ضد الأراضي اللبنانية وتنسحب منها وفق القرار 425 الذي صدر في 16 آذار عقب الاجتياح، كذلك دعا إلى تشكيل قوة دولية تابعة للأمم المتحدة وإرسالها إلى الجنوب للتأكد من الانسحاب الإسرائيلي. لم تذعن « إسرائيل » للقرارات الدولية، بل أبقت قواتها في مساحة 700 كلم تقريباً، وهي المساحة الإجمالية للشريط المحتل في صيغته الأولى ( 1978 ـ 1982 ).
لم تنعم المناطق الحدودية بالهدوء، فقد ظلت التوترات تجري في فلكها، وأعنفها ما حصل ما بين 14 و 24 تموز عام 1981، حيث تكثفت الغارات الجوية الإسرائيلية على امتداد مناطق واسعة من لبنان، موقعة 200 شهيد و 800 جريح.
اجتياح عام 1982
على إثر الاعتداءات الإسرائيلية في تموز 1981، تبنّى مجلس الأمن قراراً يدعو إلى وقف إطلاق النار في مهلة لا تتعدى 48 ساعة، وتمّ ذلك فعلاً، إلاّ أن « إسرائيل » اعتبرت أن أي عملية تحصل ضدها، وفي أي مكان عمل يدخل في دائرة الخروج على اتفاق تموز، إذاً كانت مسألة غزو لبنان سنة 1982 هي مسألة توقيت. لذلك عندما أصيب الدبلوماسي الإسرائيلي شلومو أرغوف بجراح في محاولة لاغتياله في لندن ليل 3 ـ 4 حزيران، باشرت القوات الإسرائيلية غاراتها يومي 4 ـ 5 حزيران على عشرات القرى الجنوبية، واستكملت ذلك باجتياح عامّ باشرته في 6 حزيران وانتهى باحتلال بيروت ومنطقة جبل لبنان منتصف أيلول، وبمجازر صبرا وشاتيلا في 18 أيلول من العام نفسه. في تلك الأثناء كانت قرى الجنوب والبقاع الغربي تغلي، وكانت تتأهب لمواجهة قوات الاحتلال، ولا سيما بعد تزايد وعي الجنوبيين والبقاعيين بمخاطر الصهيونية وضرورة محاربة الكيان الإسرائيلي، ولا ننسى الدور المهم الذي كان قام به رئيس المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى السيّد موسى الصدر في هذا المجال قبل إخفائه. ثم كانت الثورة الإسلامية في إيران، التي حرّكت المسلمين وألهمت المقاومين في الجنوب والبقاع، فكانوا على استعداد تام للجهاد وللاستشهاد في سبيل دحر المحتلين. كما بدأت المقاومة الشعبية والعسكرية ضد تلك القوات، فكان الزيت المغلي فوق رؤوس جنود الاحتلال، وكانت العبوات الناسفة تزرع الرعب في قلوبهم.
المراحل الأولى للانسحاب الإسرائيلي
لم تنعم القوات الإسرائيلية بالراحة لاحتلالها المناطق اللبنانية، فقد بدأت العمليات الجهادية تلاحقها، فما أن أطلّ تشرين الثاني عام 1982، حتّى بدأت العمليات الاستشهادية التي افتتحها الشهيد أحمد قصير، مروراً بعملية الاستشهادي بلال فحص وعملية الاستشهادي نزيه قبرصلي. ثم كرت سبحة العمليات، وتأججت المقاومة الشعبية والعسكرية، يرافق ذلك غليان جماهيري يرفض وجود المحتلين في أرض الوطن، وكان ردّ الإسرائيليين عنيفاً تمثل بقتل أو اعتقال أو نفي كل من يجاهر بالعداء لهم، وعلى الرغم من كل ذلك اضطر العدو إلى الانسحاب على مراحل.
انسحبت القوات الإسرائيلية من الجبل في 3 ـ 4 أيلول 1983 إلى جنوب الأوّلي. ثمّ انسحبت من صيدا في 16 شباط 1985، ومن النبطية وقضائها في 11 نيسان 1985، ومن البقاع الغربي وراشيّا والباروك في نيسان 1985، ومن قضاء صور في 29 نيسان 1985. واكتمل الانسحاب « الظاهري » للقوات الإسرائيلية في 10 حزيران 1985، إلاّ أنّها أبقت على وجود عسكري ثابت في 13 قرية بادئ الأمر، تمتد من زغلة في حاصبَيّا إلى شَبعا، إضافة إلى وجود مباشر في مناطق أخرى من الشريط المحتل. وظل هذا الوجود يتعزز في الثمانينات والتسعينات رجالاً وعتاداً مع الضربات التي أصيب بها ما يسمّى « جيش لبنان الجنوبي » بقيادة انطوان لحد المتعامل مع « إسرائيل ».
لقد احتفظ « الكيان الصهيوني » أخيراً بشريط محتل يمتد من البحر عند رأس الناقورة إلى كامل الحدود اللبنانية الفلسطينية بطول 79 كلم، ومع ما أضيف إليها من حدود لبنانية سورية كان الكيان الصهيوني قد احتلها في حربي 1967 و 1973 في مرتفعات جبل الشيخ، يصبح طول الشريط المحتل في صفحته الجنوبية 122 كلم. أما متوسط عرضه فهو في حدود الـ 10 كلم، وبعمق متفاوت داخل الأراضي اللبنانية، إذ يصل في حدّه الأقل إلى 5 كلم، وفي حدّه الأعمق 40 كلم. وكانت مساحة الشريط المحتل في حدود 1200 كلم2، أي ما يعادل 12% من مساحة لبنان، أو ما يزيد على نصف مساحة الجنوب اللبناني التي تبلغ حوالي 2011 كلم2.
البلدات والقرى داخل الشريط المحتل
قضاء صيدا: بصليا.
قضاء صور: 11 قرية من 96 قرية إجمالي القضاء، وهي: البستان، الجبين، الزلوطية، شمع، شيحين، طيرحرفا، الظهيرة، علما الشعب، مروحين، الناقورة، يارين.
قضاء بنت جبيل: 18 بلدة وقرية من أصل 36 قرية إجمالي القضاء: بنت جبيل، بيت ليف، بيت ياحون، دبل، رامية، رشاف، رميش، صربين، الطيري، عيتا الشعب، عين إبل، عيترون، عيناتا، القوزح، كونين، مارون الراس، يارون.
قضاء مرجعيون: 26 بلدة وقرية من اصل 30 قرية إجمالي القضاء: إبل السقي، برج الملوك، بلاط، بليدا، بني حيان، البويصة، حولا، الخيام، دبين، دير سريان، دير ميماس، رب الثلاثين، سردة والعمرة، طلوسة، الطيبة، عدشيت القصير، العديسة، علمان القصير، القليعة، القنطرة، كفركلا، محيبيب، مرجعيون، مركبا، ميس الجبل، الوزاني.
قضاء حاصبيا: 16 بلدة وقرية من أصل 21 قرية إجمالي القضاء: أبو قمحة، برغز، حاصبيا، حلتا، راشيا الفخار، شبعا، شويا، عين جرفا، عين قنيا، الفرديس، كفر حمام، كفر شوبا، كوكبا، الماري، المجيدية، الهبارية.
يضاف إلى قضاء حاصبيا مزارع شبعا التي ما زال العدو يحتفظ بها. تقع مزارع شبعا على السفح الجنوبي الغربي لجبل الشيخ بطول 20 كلم، تبدأ من قمة الزلقا ( ثاني أعلى قمة في جبل الشيخ ) حتى مغر شبعا، وبعرض يتراوح بين 7 و 10 كلم ابتداء من بلدة كفرشوبا حتى حدود لبنان الدولية مع سوريا حيث قرية بانياس السورية. وقد سميّت مزارع مِن تعاطيها الزراعة وتربية الماشية واعتمادها على ذلك. وعددها 14 مزرعة: العقارب، مغرشبعا، خلة غزالة، رويسة القرن، ظهر البيدر، جورة، فشكول، زبدين، رمثا، الربعة، بيت البراق، برختا التحتا، برختا الفوقا، مراح الملوك، احتُلّت جميعاً عام 1967، إضافة إلى مزرعة بسطرة التي احتلت عام 1990. كما يوجد أملاك وقفية شاسعة تعود للأوقاف الإسلامية ولأوقاف الكنيسة الأرثوذكسية، مع الإشارة إلى وجود مزار ديني يعرف باسم مشهد الطير، وفيه مقام للنبي إبراهيم عليه السّلام.
قضاء النبطية: أرنون، ويحمر، إضافة إلى حمى علي الطاهر، وحمى أرنون.
قضاء جزين: 47 بلدة وقرية، وهي: أنان، البابا، بتدين اللقش، بحنين، بسري، بكاسين، بنواتي، تعير، الجرمق، جزين، الحرف، الحمصية، حيداب، حيطورة، حيتولي، داريا، روم، ريحان، ريمات، رحلتا، سجد، السريرة، سنيا، شقاديف، صباح، صفارية، صيدون، عارية، عازور، عرمتى، العيشية، عين مجدلين، غباطية، قتالة، قيتولي، القطراني، قطين، كفرتعلا، كفرحونة، كفرفالوس، اللويزة، مشموشة، المطحنة، المكنونية، مليخ، الميدان، وادي جزين.
معابر القهر
أما المعابر، فالحديث عنها ذو شجون، فقد اختصرت معاناة شعبٍ كابد الإذلال والقهر، حيث باتت بعض المعابر بمنزلة نظارة توقيف استقبلت في مرات عديدة المئات من « الموقوفين » بانتظار إيماءة فتح الطريق، كمعبر باتر ـ جزين على سبيل المثال. بعض المعابر أُقفل قبل تحرير الجنوب، وبعضها بقي حتى اللحظات الأخيرة، والمعابر هي: معبر جسر الحمرا، معبر بيت ياحون، معبر كفر تبنيت، معبر زمريا، معبر باتر ـ جزين، معبر الريحان، معبر بسري، معبر ريمات، معبر أرنون ويحمر، معبر الشومرية، معبر شقرا ـ حوالا.
معاناة العاملين في ظل الاحتلال
ذاق أهالي منطقة الشريط الحدودي وأهالي الجنوب وقرى المواجهة في البقاع الغربي عامة، الأمرَّينِ من ممارسات الاحتلال الإسرائيلي على كافة الأصعدة، فعلى امتداد ربع قرن، أقدمت قوات الاحتلال على ارتكاب المجازر بحق الأبرياء العزّل، ولعلّ مجزرة قانا في 18 نيسان 1996 تترجم وحشية هذه القوات، حيث ذهب ضحيتها أكثر من 106 شهداء من الأطفال والنساء والرجال.
وقد عمدت هذه القوات إلى إبعاد الكثيرين من بلداتهم وقراهم ولا سيما علماء الدين، أو مَنْ تشتبه به أنه يتعاطف مع المقاومة.
ولم تكتف بذلك، بل أقدمت على قتل المجاهدين الذين جاهروا الكيان الصهيوني بالعداء، وعملوا على تحريك الجماهير.
وإذا كانت القرى والبلدات في الجنوب والبقاع قد لاقت الإهمال من قبل الدولة قبل الاحتلال وبعده، فإن الأمر تفاقم مع وجود قوات الاحتلال التي عزلت الشريط المحتل عن باقي الوطن، فعلى صعيد المياه مثلاً، نعلم أن معظم المناطق الجنوبية كانت تعاني من أزمة حادة في المياه حتى تحولت قضية المياه إلى شريك أساس في أسباب النزوح والصمود، ولا سيما في القطاع الاوسط الذي عانى من الانقطاع شبة المستمرّ، ومع اجتياح 1978 عملت قوات الاحتلال على تدمير شبكات المياه القائمة وتدمير الخزانات التي كانت تمد القرى بالمياه مثل خزان برعشيت وخزان شبعا وخزان العديسة وغيرها. وقد ربطت تلك القوات عدداً من القرى بشبكات مياهها في الداخل الفلسطيني المحتل، وذلك لجعل تلك القرى والبلدات مرتبطة دائماً بالسياسات الإسرائيلية؛ إلا أن الأهالي أعادوا الدور لآبار « الجمع » من ناحية، ومن ناحية اُخرى شرعوا في شراء المياه عبر الصهاريج عند شح المياه، ومنهم من اعتمد على الآبار الارتوازية في المناطق التي فيها مخازن مياه جوفية.
أما على صعيد التعليم، فقد شهدت المدارس نقصاً حاداً في التجهيزات اللازمة وفي عدد المعلمين، وحاولت قوات الاحتلال فرض اللّغة العبرية في مدارس الشريط المحتل، إلاّ أن الأهالي رفضوا ذلك، كما رفضوا أن يكمل أبناؤهم دراساتهم في فلسطين المحتلة، أو القيام برحلات مدرسية أو ترفيهية إليها.
وكانت كلما ازدادت الغطرسة الإسرائيلية، ازداد تمسّك الجنوبيين بأرضهم ودينهم، فازدادوا حباً للأرض وتعلقاً بالقرآن الكريم وبسنّة النبيّ صلّى الله عليه وآله وأهل بيته عليهم السّلام، والسير على خطاهم في الثبات والصمود وعدم الرضوخ للظالمين.
ولم يكن الأمر أحسن حالاً في المناطق المتاخمة للشريط الحدودي، حيث تعرّضت طيلة أعوام الاحتلال إلى القصف ممّا أدّى إلى هجرة الكثيرين إلى مناطق أكثر أمناً، وإلى استشهاد المدنيين الذين رفضوا النزوح عن ديارهم، وإلى حرق المزروعات والأشجار ولا سيما أشجار الزيتون، وكذلك حرق الأحراش حيث كانت المساحات الخضراء تمتد إلى مسافات واسعة، وإلى زرع الألغام وإلى هدم المنازل والمحلات التجارية. ولم تنجُ المساجد أيضاً من غضب الصهاينة، فلطالما طال القصف الغاشم المساجد وصروح النوادي الحسينية، كمسجد قرية برعشيت ورشاف وسجد وحداثا وغيرها من المساجد التي دُمّرت كلياً أو جزئياً إما بسبب القصف المباشر أو على أيدي العملاء كما حصل لمسجد حانين. كما مُنع الأذان عند الفجر، وأهملت المساجد والنوادي الحسينية، وكذلك الأمر بالنسبة إلى النوادي الثقافية والاجتماعية، حيث كانت الكتب الدينية الهادفة محظورة من الدخول إلى الشريط المحتل.
أما القطاع الصحي، فقد شهد تدهوراً عاماً تمثل بالنقص الحاد في التجهيزات والطاقم الطبي في المستشفيات الحكومية، ولم تَفِ المستوصفات بالحاجة، إذ كثيراً ما وُصف حَبّة أو حَبّتان مسكنتان للألم لأي مريض وفي كل الحالات. وأما خدمات الهاتف فكانت قد توقفت منذ عام 1976 إثر سرقة الأسلاك والتمديدات. وقد حاولت قوات الاحتلال ربط هاتف حاصبَيّا بمركز هاتف مستعمرة متولاه، إلاّ أن الأهالي رفضوا ذلك فتوقف المشروع. وأمام وجود الحدوديين في صندوق مقفل كما جاء على لسان مواطنة حدودية، عرفت اشتراكات الهاتف في القطاع الخاص حدّها الأقصى في الرواج، مع ابتزاز فاضح عند حدّي الاشتراك والصيانة. وعلى الرغم من كل ما عاناه الجنوبيون وأهالي قرى المواجهة في البقاع الغربي، فإن اليأس لم يعرف طريقاً إلى نفوسهم، فقاوموا الاحتلال الصهيوني بشجاعة وبسالة، أفراداً وجماعات، وساندهم الغيورون من أبناء الوطن كافة، لا سيما شباب وأبناء منطقة بعلبك ـ الهرمل، وأبناء البقاع الغربي المجاهدين الذين أنزلوا بالعدو الضربات الموجعة، وقدموا مئات الشهداء في سبيل تحرير الأرض من الغاصب المحتل.. بدءاً بالزيت المغلي الذي ألقت به النسوة من فوق سطوح المنازل على جنود الاحتلال إلى العبوات الناسفة، فإلى العمليات الاستشهادية واقتحام مواقع العدو بكل جرأة وبسالة.
واستطاع المقاومون أن يفرضوا منطق توازن الرعب بعد أن انتظمت صفوفهم ضمن المقاومة الإسلامية، إلى جانب ما بذله مجاهدو حركة أمل والشرفاء من بقية الأحزاب، وإلى صمود الشعب المؤمن الأعزل وتشبثه بأرضه ومعتقداته. كما لا يمكن أن ننسى أيضاً دور المهاجرين في بلاد الاغتراب في دعم صمود أهاليهم ومساندتهم في الشريط المحتل، كمشروع الخمسة دولارات الذي نظّمه أبناء بنت جبيل المقيمون في الولايات المتحدة الأمريكية، لدعم المحتاجين من أبناء البلدة الصامدين.
كل ذلك ـ وخصوصاً جهاد المقاومين الشرفاء ـ أجبر العدو أخيراً على الانسحاب ذليلاً منهزماً من الشريط المحتل، فعاد أذان الفجر يصدح في المساجد الحدودية بعد توقف قسري، وتحررت الأرض من مغتصبيها، والأسرى من جلاديهم في معتقل الخيام.
ومع عودة الشريط إلى حضن الوطن، عاد المواطنون إلى قراهم وبلداتهم مع أن كثيراً منها دُمّر كلياً أو جزئياً كميدون في البقاع الغربي، وحانين، وسُجد وكونين ورشاف وبيت ياحون في الجنوب.
( عن مجلة نور الإسلام، العددان 71 ـ 72، السنة 6، كانون الثاني وشباط 2001 ـ شوال وذو القعدة 1421هـ / ص 51 ـ 66 )

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق